تمثيل حقيقي بقلم الاستاذ عبده داود

 تمثيل حقيقي 

6.11.2020

(قصة حقيقية) 

حدثني والدي عن واقعة جرت معه في أربعينات القرن الماضي قال: كنت آنذاك معلماً في صدد (قرية قريبة من بلدتنا النبك) في ريف دمشق. أذهب صباحاً إلى تلاميذي في تلك الضيعة وأعود عصراُ إلى النبك، هذا عندما يكون الطقس جميلاً أمتطي دراجتي الهوائية العادية، اتمتع بهدوء الطريق، وزقزقة العصافير... وخاصة في الربيع، حيث تبدأ زهور المشمش تعطر الجو. أما في الأيام الصعبة كنت أبحث عن وسيلة ركوب وغالبا سيارة من سيارات ضيعة صدد القليلة... 

انتهت السنة المدرسية تلك، وقررنا أنا ورفاقي تحريك المناخ الثقافي في النبك بأي موضوع جميل يبهج ضيعتنا، وأخيراُ اخترنا مسرحية راقية، نمثلها لتترك بصمتها الثقافية الفاعلة في بلدتنا.

اخترنا مسرحية عالمية قرأناها، وأخيراً قررنا أن نمثلها ونعرضها للمثقفين في منطقة النبك...

واحد من زملائنا، له اهتمامات بالمسرح سميناه المخرج. 

قام بتوزع الأدوار علينا، ونحن أخذنا نحفظ الحوار، ونتدرب على التمثيل المسرحي بحماس حقيقي. 

مضى الصيف، ونحن نتمرن كل مساء، وفعلاً أتقنا أدوارنا تماماً...

تابع والدي وقال: جاء خريف تلك السنة، وعدت أنا إلى التعليم بذات المدرسة في صدد. وكالعادة كنت أذهب في الصباح على دراجتي الهوائية، وأعود في العصر إلى النبك، كان ذلك أسهل من البحث عن وسيلة مواصلات غالباً غير متوفرة

كنا نجتمع أنا وأصدقائي مساء كل يوم، لنتمرن أكثر على أدوارنا في التمثيل المسرحي... 

عندما انتهينا من التدريبات تماماً، قمنا بالدعوات لحضور المسرحية المنشودة. تحت رعاية القائم بالمقام، (الذي نسميه اليوم مدير المنطقة) دعينا الحاشية الحاكمة، ورجال الدين، ورجالات المنطقة المعروفين، وأصدقائنا المثقفين من النبك والبلدات المجاورة، ومنها يبرود، وديرعطية، وقارة... ثم أنهينا تجهيز المسرح، بالديكورات والستائر، والانارة، وجلبنا المقاعد، وأخذنا الاحتياطات اللازمة لتلافي الأخطاء التي قد تحدث وتعيق عرض المسرحية.

توقف عن كلامه، وشرق نفثاً من نارجيلته، ونظر إلى السماء ابتسامة فيها فرح ممزوجاً بأسف، ودمعت عيناه وقال: كنا شباباً، لقد مضى الزمن الجميل...

قلت: لا، يا والدي، الزمان الجميل هو أنتم، حضوركم معنا بركة لنا وسبب سعادتنا... 

هز برأسه وتابع يقول: كان دوري في المسرحية أساسياَ، أمثل دور رجل مريض، في غرفة مستشفى، ويظهر معي ممرض مشرف، وسرير وطاولة وكرسي وبعض اللوازم. هكذا كان هو المشهد الأول في المسرحية، تفتح الستارة ويبدو المريض منهكاً يتحرك بصعوبة ليصل إلى سريره...

جاء يوم المسرحية...كان النهار مشمساً، امتطيت دراجتي في الصباح، وذهبت إلى تلامذتي، وقررت أن أعود باكرا بعض الوقت إلى المسرح، لأساعد باللمسات الأخيرة، الواجب القيام بها قبل بدء العرض الأول والوحيد...

اغرورقت الدمعات في عيني والدي، لم أفهم سببها أهي دموع حزن أم هي دموع فرح؟ 

قال: أثناء عودتي من المدرسة، هبت رياح شديدة عاكسة اتجاه الدراجة مما جعلني أبذل مجهوداً كبيرا في قيادتها. ولسوء الحظ، انقطع جنزير تدوير العجلة، وهنا بدأت كارثتي... لأنني لم أفلح في إصلاح الجنزير والوقت يمضي والطريق لا تزال بعيدة...وليس بيدي حيلة. 

سحبت الدراجة، وأخذت أسرع، وأسرع، وأصلي كثيراً طالباً من الله أن اصادف سيارة ركوب...حتى توصلني للضيعة... حتى أصل في الوقت المناسب، لكن الحقيقة أنا فقدت الأمل في الوصول وليس في يدي حيلة.

لاحقاَ، أخبرني رفاقي عن موقفهم الصعب، بأنهم كانوا قلقين جداً بشأني ومحتارين كيف يتصرفون. وصل (مدير المنطقة) القائم مقام وضيوفه وحراسه، وقاعة المسرح غصت بالمدعوين، واحتار زملائي ماذا يفعلون، أو كيف يتصرفون... ألقوا كلمات محضرة سابقاً ترحيبية بالحضور، وكلمات ارتجلوها في حينها، تأهيلاً وتقطيعاَ للوقت. كما قدموا فاصلا غنائياً، ثم عزفاً منفرداً على العود، هذه الفقرات لم تكن مقررة في البرنامج. وعندما يئسوا من حضوري، قرروا الباس أحد رفاقنا من الفرقة لباس الرجل المريض ليحل محل الممثل الغائب الذي هو أنا...

في اللحظات الأخيرة وصل والدي وهو بين الموت والحياة من شدة الركض والجهد. البسوه كيفما اتفق. ودخل المسرح، وارتفعت الستارة، وسقط المريض على الأرض بجانب السرير أصفر الوجه وهو يمثل دور المريض الذي أنهكه التعب وشدة الألم، أنهضه خادمه في المسرحية بصعوبة حقيقية ليجلسه على حافة السرير حتى يلتقط أنفاسه ليقول جملة حوار لكنه عجز عن الكلام، فأشار بيده طالباً كأس ماء ليتمكن من الحكي (وهذه كلها حركات مرتجلة)، ليستطيع متابعة التمثيل ويقول الجملة المقررة في نص الحوار المسرحي. 

هنا علا التصفيق وبشدة لأن الجمهور ظن بان ذاك الممثل، يمثل ببراعة، ويؤدي دوره بشكل مدهش وبحرفية الممثلين القديرين. تابع والدي دوره في المسرحية وهو يمثل دور المريض وهو فعلاً مريضاً، والمشاهدون يصفقون للممثل البارع الذي أدهش الحضور بروعة تمثيله الحقيقي... 

ظل الأمر سرا، للذين حضروا المسرحية وتحدثوا وقتاً طويلاً عن المسرحية وقوة التمثيل وخاصة عن ذاك الشخص الذي مثل دور (المريض).


 

الكاتب: عبده داود

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المحبة النقية بقلم الاستاذ/ة اوليف سرور

لا تبعد بقلم الاستاذ عطية البنا

وطني بقلم الاستاذ فتحي سالم الخريشا